في أمسية فكرية غنية بالحوار والتحليل، أقام المركز الثقافي الكُردي في مدينة مونستر الألمانية ندوة تحليلية موسّعة استضاف فيها الباحث والمحلل السياسي الكُردي المعروف إبراهيم كابان، بحضورٍ لافت ضمّ العشرات من المثقفين والناشطين والسياسيين والمهتمين بالشأن الكُردي والسوري والدولي، في مشهد عكس حيوية الجالية الكُردية في أوروبا واهتمامها الدائم بتطورات المنطقة ومآلاتها المستقبلية.
محاضرة تحليلية امتدت لأكثر من ساعتين
امتدت الندوة لأكثر من ساعتين من التحليل المكثف، حيث قدّم كابان رؤية شاملة ومعمقة حول الواقع السوري الراهن، متناولاً أبرز الملفات الساخنة التي تلامس بنية الصراع المعقد في البلاد. وركّز كابان في بداية مداخلته على ما سمّاه بـ"التحولات البنيوية في النظام السوري"، مفككاً المنظومة السلطوية القديمة والجديدة، وتحديداً مفهوم "النظام الجديد في دمشق" بقيادة أحمد الشرع، والذي وصفه بـ"النظام المموّه ذو الطبيعة الجهادية ذات الوجه المدني".
التداخلات الدولية والإقليمية: واشنطن، أنقرة، والعواصم العربية
سلّط الباحث الضوء على الموقف الأمريكي من التطورات السورية، موضحاً حدود التدخل الأمريكي وتحولاته بين الانكفاء والرقابة الأمنية. كما قدّم تحليلاً دقيقاً لـ السياسات التركية في الشمال السوري، والتي اعتبرها حجر الزاوية في التحولات الجارية، موضحاً أن أنقرة لا تكتفي بالتدخل الميداني بل باتت تتحكم بجزء كبير من القرار المركزي في دمشق، عبر أدوات مباشرة وغير مباشرة، خصوصاً في ما يعرف بـ"مجلس المجاهدين"، الذي وصفه بـ"الدولة العميقة البديلة في سوريا".
وفي معرض تفكيكه لتموضعات القوى الإقليمية، تناول كابان الصراع الخفي بين بعض العواصم العربية (كالرياض وأبو ظبي) من جهة، وأنقرة من جهة أخرى، معتبراً أن هذه العواصم باتت تنظر إلى سوريا كساحة نفوذ ضروري لإعادة التوازن مع تركيا في ظل التمدد التركي في شمال ووسط سوريا، مما يجعل الصراع في سوريا ليس فقط داخلياً بل إقليمياً وعالمياً بامتياز.
ذهنية النظام الجديد ومجلس المجاهدين
أفرد كابان جزءاً كبيراً من تحليله لـ ذهنية "أحمد الشرع" ومؤسسات النظام الجديد، موضحاً أن الشرع لا يمثل قطيعة كاملة مع النظام السابق، بل استمراراً له بطريقة أكثر "براغماتية إسلامية". وتحدّث عن "مجلس المجاهدين" كقلب مركزي للقرار السوري الجديد، واصفاً إياه بـ"الحاكم غير المرئي" الذي يجمع بين الفكر الجهادي والإدارة الأمنية، ما يعيد إنتاج الديكتاتورية ولكن بلغة جديدة وشعارات دينية.
وشدد كابان على أن ما يحدث في دمشق ليس انتقالاً ديمقراطياً، بل إعادة تموضع لقوى سلطوية جديدة تلبس لبوساً ثورياً أو دينياً لإعادة هندسة السلطة، محذراً من تجاهل هذه الحقائق من قبل الفاعلين الدوليين.
تفاعل الحضور وجلسة الأسئلة
تخللت الندوة فقرة تفاعلية واسعة، حيث فُتح المجال أمام الجمهور لطرح الأسئلة والتعليقات. وتنوّعت الأسئلة بين مستقبل الوجود الكُردي في سوريا، خيارات القوى السياسية الكُردية، طبيعة العلاقة بين الإدارة الذاتية والنظام الجديد في دمشق، والسيناريوهات المحتملة في ضوء تراجع النفوذ الأمريكي وتصاعد الدور التركي.
أجاب كابان على جميع الأسئلة بصراحة ووضوح، مؤكداً أن المرحلة المقبلة ستكون حساسة جداً، وأن على الكُرد، كقومية أصيلة في المنطقة، أن يمتلكوا خطاباً سياسياً عقلانياً بعيداً عن الرهانات الفاشلة على المحاور الإقليمية المتضادة.
ختام الندوة واللقاءات الإعلامية
في نهاية الندوة، نظّمت الجهة المُستضيفة جلسة ختامية للتصوير التذكاري، جمعت الحاضرين مع الباحث كابان، في جو من الحميمية والاهتمام الثقافي. كما أجرت عدة وسائل إعلامية كُردية وعربية لقاءات خاصة مع كابان ومنظمي الفعالية، تمحورت حول أهمية هذه الندوة، وتوقيتها في ظل التطورات السياسية السريعة في المنطقة.
دلالة الندوة ورسائلها
عكست هذه الندوة أهمية وجود مساحات حوار وتحليل سياسي بين أبناء الجالية الكُردية في المهجر، خصوصاً في أوروبا، حيث يمكن مناقشة قضايا المنطقة بحرية وعمق. كما أكدت على الحاجة الماسة إلى خطاب تحليلي نقدي مستقل بعيداً عن الاصطفافات الأيديولوجية، وهو ما مثّله إبراهيم كابان في طرحه، حيث جمع بين الواقعية السياسية والتحليل البنيوي للمشهد السوري المعقد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق